يونيسف: لبنان ينزف وجعاً.. وأطفاله يدفعون الثمن (حوار)
بولييغراك لـ"جسور بوست": الصحة النفسية جزء أساسي من عملنا ونسعى لدعم الأطفال والأسر
في قلب الشرق الأوسط المشتعل، يقف لبنان شامخاً، لكنه يئن تحت وطأة أزمات متلاحقة تهدد نسيجه الاجتماعي والاقتصادي.. من الانهيار المالي غير المسبوق إلى تداعيات جائحة كوفيد-19، مروراً بالصدمة المروعة لانفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى التوترات الإقليمية المتصاعدة، يواجه تحديات وجودية تلقي بظلالها القاتمة على جميع جوانب الحياة، وخاصة على جيل المستقبل "الأطفال".
تحت سماء مثقلة بالغيوم، وبين أزقة وشوارع تشهد على صمود شعب يكافح للبقاء، تبرز أسئلة ملحة؛ كيف تصمد نفسية أطفال لبنان في وجه هذه العواصف المتتالية؟ كيف يتعاملون مع واقع مرير يهدد أحلامهم ويقوض براءتهم؟ وما الدور الذي تضطلع به منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" في حماية هذا الجيل من الآثار النفسية المدمرة لهذه الأزمات المتشابكة؟
ولمعرفة جهود "يونيسف" الحثيثة في لبنان، وفهم وتقييم الوضع النفسي للأطفال في ظل هذه الظروف القاسية.. كشف كريستوف بولييغراك، رئيس قسم التواصل في "يونيسف" لبنان في حوار مع "جسور بوست"، عن البرامج والمبادرات التي تطلقها المنظمة لدعم صحة الأطفال النفسية وعافيتهم، والتحديات التي تواجههم في سبيل تحقيق هذه الغاية النبيلة.
وتحدث بولييغراك عن تفاصيل عملهم الميداني، بدءاً من تدريب الشركاء المحليين على اكتشاف علامات الضيق النفسي لدى الأطفال، وصولاً إلى تقديم الدعم النفسي المتخصص في المدارس والمجتمعات المحلية.
وسط هذه الأزمات المتعددة، كيف تقيم "يونيسف" الجانب النفسي للأطفال في لبنان؟
الصحة النفسية ليست مجرد برنامج واحد، بل هي جزء لا يتجزأ من عملنا الشامل.. لدينا مجموعة متنوعة من المشاريع والمبادرات التي تهدف إلى دعم الصحة النفسية للأطفال وعائلاتهم، ويبدأ عملنا بتعزيز قدرة شركائنا على الأرض على تحديد العلامات التي تشير إلى وجود مشكلات نفسية لدى الأطفال وعائلاتهم. هذا التدريب ضروري للغاية، ويجب أن نفكر في طرق مبتكرة ومتنوعة لتقديم الدعم النفسي. على سبيل المثال، نعمل على دمج الدعم النفسي والاجتماعي في الأنشطة المدرسية.
وما البرامج المحددة التي تم تنفيذها لدعم الصحة النفسية للأطفال وعائلاتهم؟
لدينا برنامج رائع يسمى “قدوة”، وهو مبادرة مجتمعية شاملة. من خلال هذا البرنامج، نعمل مع مختلف الفاعلين في المجتمع، من المتطوعين إلى قادة الرأي، ليكونوا جزءاً من شبكة دعم للأطفال والأسر على مستوى القاعدة الشعبية.. لدينا أيضاً فرق متنقلة لتقديم الدعم النفسي الأولي للأطفال والأسر المحتاجة.
هل توجد برامج تدريبية للمعلمين والعاملين في مجال الرعاية الصحية لمساعدتهم في التعامل مع الأطفال الذين يعانون من صدمات نفسية؟
في جميع مدارسنا المدعومة، نولي اهتماماً خاصاً لتقديم الدعم النفسي للأطفال. وهذا يشمل تدريب المعلمين ومديري المدارس على كيفية التعرف على علامات الضيق النفسي لدى الأطفال وكيفية التعامل معها، لدينا أيضًا متخصصون في الصحة النفسية يقدمون الدعم المباشر للأطفال الذين يحتاجون إليه، ويبدأ عملنا بتعزيز قدرة شركائنا على الأرض على تحديد العلامات التي تشير إلى وجود مشكلات نفسية لدى الأطفال وعائلاتهم، هذا التدريب ضروري للغاية.
في ضوء الأزمات المتعددة في لبنان.. كيف تعطي يونيسف الأولوية بين القطاعات مثل التعليم والصحة والحماية والتغذية؟
هذا السؤال يعكس مدى تعقيد الوضع الذي نعمل فيه. اسمحوا لي أن أبدأ بمشاركة تجربتي الشخصية التي امتدت لأكثر من عامين في العمل مع يونيسف في لبنان، تحديدًا في مجالي التعليم والحماية، وهذه التجربة تعلمني أن تقييمنا للاحتياجات واستراتيجياتنا تتطور باستمرار لتتناسب مع الواقع المتغير على الأرض، ما كنا نعتبره الأولوية القصوى قبل عامين، قد يختلف اليوم بناءً على التطورات الطارئة والاحتياجات المستجدة.
وهل هناك آلية لتقييم وتحديث هذه الأولويات بمرور الوقت؟
نحن نعتمد على منهجين متوازيين، الأول هو الاستجابة الفورية للاحتياجات الأكثر إلحاحاً للأطفال والأسر المتضررة.. هذا يتطلب منا مرونة عالية وقدرة على التكيف السريع مع الظروف الطارئة، أما المنهج الثاني فهو التفكير في التنمية طويلة الأمد، والسعي لبناء حلول مُستدامة تضمن حقوق الأطفال على المدى الطويل.
وعلى الرغم من تنوع الأزمات، تظل أولوياتنا الجوهرية ثابتة وهي ضمان حصول الأطفال على التعليم الجيد، وتوفير الحماية اللازمة لهم من جميع أشكال العنف والاستغلال، وتأمين المياه النظيفة والصرف الصحي المناسب، وضمان حصولهم على الغذاء الكافي، وهذه هي الركائز الأساسية لعملنا، ونسعى دائماً للتكيف مع الظروف المتغيرة لضمان تحقيق هذه الأهداف.
وما الاستراتيجيات التي تتبناها "يونيسف" لضمان استدامة برامجها في لبنان؟
نحن مؤسسة قائمة على الشراكات، وهذا ليس مجرد شعار بل حقيقة واقعية نؤمن بها ونمارسها يومياً، ونسعى لتعزيز الشراكات مع المجتمعات المحلية ودعم المنظمات المحلية العاملة على الأرض، لأنهم الأقرب إلى فهم الاحتياجات الحقيقية.
ونحن نسعى دائماً لإيجاد طرق مبتكرة للعمل مع شركائنا. على سبيل المثال، ندعم المبادرات المحلية لتوفير المياه الآمنة، ونعمل مع المدارس المجتمعية لضمان استمرار العملية التعليمية، وهدفنا هو أن تكون تدخلاتنا مستدامة وذات تأثير حقيقي على مستوى المجتمع.
ونعمل بتنسيق وثيق مع جميع الشركاء على المستويات كافة، من الحكومة اللبنانية إلى المنظمات الدولية والمحلية. هذا التنسيق يشمل بالطبع مناقشة وتحديد كيفية توزيع الموارد المالية بشكل فعال لتجنب الازدواجية وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، ولا نقدم المساعدات فقط، بل نعمل أيضًا على بناء قدرات شركائنا المحليين وتمكينهم ليكونوا أكثر قوة وفاعلية في الاستجابة لاحتياجات مجتمعاتهم.
وكيف تعالج "يونيسف" التحديات المتعلقة بالتنسيق مع الهيئات الحكومية والمنظمات المحلية لضمان التنفيذ الفعال للبرامج؟
نعمل بتنسيق وثيق مع جميع الشركاء على المستويات كافة، من الحكومة اللبنانية إلى المنظمات الدولية والمحلية، وهذا التنسيق يشمل بالطبع مناقشة وتحديد كيفية توزيع الموارد المالية بشكل فعال لتجنب الازدواجية وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، وكما ذكرت، نحن مؤسسة قائمة على الشراكات، وهذا ليس مجرد شعار بل حقيقة واقعة نؤمن بها ونمارسها يوميًا. نسعى لتعزيز الشراكات مع المجتمعات المحلية ودعم المنظمات المحلية العاملة على الأرض، لأنهم الأقرب إلى فهم الاحتياجات الحقيقية.
ومن خلال برنامج 'قدوة'، الذي أشرت إليه نعمل مع مختلف الفاعلين في المجتمع، من المتطوعين إلى قادة الرأي، ليكونوا جزءًا من شبكة دعم للأطفال والأسر على مستوى القاعدة الشعبية.
مع تضرر العديد من المدارس.. ما الخطط الحالية لإعادة تأهيل هذه المرافق وضمان عودة الأطفال إلى التعليم؟
إيماناً بأهمية التعليم كركيزة أساسية، نضع قطاع التعليم في صدارة أولوياتنا، ويأتي في هذا السياق دعم المدارس التعليمية التي تضطلع بدور حيوي في استيعاب جميع الأطفال، بمن فيهم أولئك الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس النظامية، وتوفير الدعم اللازم لاحتياجاتهم التعليمية، وفي هذا الإطار، نؤكد سعينا الدائم للارتقاء بمستوى الخدمات التعليمية المقدمة، ولسنا وحدنا في هذا المسعى الوطني لدعم هذه المدارس المنتشرة في مختلف أنحاء لبنان.
ولدينا أكثر من 100 مدرسة تعليمية كبيرة، بالإضافة إلى نحو 500 مبنى مدرسي كانت تُستخدم في السابق لأغراض جماعية وتحولت لاحقاً إلى مدارس تعليمية بسيطة، وهناك عدد من المدارس التي تضررت خلال الحرب وتم دمجها لاحقاً، وفي سياق التطلع نحو المستقبل، نعمل جاهدين لضمان امتلاك لبنان نظاماً تعليمياً متطوراً يليق بالجمهورية، إلا أن هذا الطموح يتطلب منا التعامل بواقعية وعدالة مع التحديات القائمة، بما في ذلك وضع المدارس التي تعاني من أوضاع سيئة أو تثير بعض الشبهات، والعمل على إيجاد حلول ناجعة لهذه المشكلات.
وأخيرا نحن أننا نقدم الدعم لأكثر من 900 مدرسة في مختلف أنحاء لبنان، من خلال توفير التمويل الضروري لتطبيق برامج التعليم العلاجي وتأمين المستلزمات المدرسية اللازمة.
ما الإجراءات التي تتخذها يونيسف لمكافحة قضايا مثل عمالة الأطفال والزواج المبكر، وخاصة في المناطق الأكثر تضرراً؟
يقاوم برنامج "قدوة" التابع لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" في لبنان زواج الأطفال وعمالتهم من خلال تبني نهج مجتمعي شامل ومتعدد الأوجه.
يرتكز البرنامج على إحداث تغيير في الأعراف الاجتماعية الضارة التي تسمح وتغذي هذه الممارسات، وذلك عبر إشراك فعال للقادة الدينيين، والشخصيات المؤثرة في المجتمع، وأعضاء المجالس المحلية.
تهدف هذه المشاركة إلى خلق بيئة مجتمعية رافضة لزواج الأطفال وعمالتهم، وتعزيز قيم تحمي حقوق الطفل وتضمن له مستقبلاً أفضل.
ونطلق حملات توعية مكثفة تستهدف مختلف شرائح المجتمع، بما في ذلك الآباء والأمهات والأطفال أنفسهم، لتسليط الضوء على العواقب السلبية الوخيمة لزواج الأطفال وعمالتهم على صحة الأطفال الجسدية والنفسية، وحرمانهم من حقهم في التعليم والتطور السليم.
يسعى البرنامج إلى تمكين الفتيات والنساء بشكل خاص، إدراكاً للدور المحوري الذي تلعبه المساواة بين الجنسين في الحد من زواج الأطفال، الذي غالبًا ما ينبع من التمييز والقيمة المنخفضة التي تُعطى لتعليم الفتيات واستقلاليتهن.
ونعمل من خلال هذه المبادرة على بناء وتعزيز شبكات دعم مجتمعية قادرة على تحديد الأطفال المعرضين لخطر الزواج المبكر أو الاستغلال في العمل، وتوفير آليات تدخل مبكرة وإحالة الحالات إلى الخدمات المختصة.. يشمل ذلك تدريب أفراد المجتمع على التعرف على علامات الخطر وتقديم الدعم الأولي. كما يركز البرنامج على تعزيز ممارسات الأبوة الإيجابية، وتوعية الأهل بأهمية تعليم أطفالهم وحمايتهم من جميع أشكال الاستغلال، سعيًا لتغيير المفاهيم التي قد تدفع العائلات إلى تزويج أطفالها أو إرسالهم للعمل كحلول للضغوط الاقتصادية.
وتسعى "قدوة" إلى معالجة الأسباب الجذرية لزواج الأطفال وعمالتهم، وعلى رأسها الفقر، وتعمل "يونيسف" بشكل أوسع في لبنان على برامج تهدف إلى الحد من الفقر وتوفير الحماية الاجتماعية للأسر الأكثر هشاشة، ما يقلل من احتمالية لجوئها إلى هذه الممارسات الضارة كآلية للتكيف، كما يؤكد البرنامج أهمية إبقاء الأطفال في المدارس، حيث يعتبر التعليم أداة قوية لحمايتهم وتوفير فرص مستقبلية أفضل لهم، ما يقلل من جاذبية الزواج المبكر أو العمل.